اعدام عاشق/عماد آل شهزي
📘 مقدمة الرواية
إعدام عاشق ليست مجرد حكاية رجل خُذل، ولا قصة حب قُطعت بشوكة السياسة، بل هي سيرة قلبٍ لم يكن يعرف سوى أن يحب، فوجد نفسه يُعاقب بكل أدوات السلطة: بالتغريب، بالتشويه، وبالغياب الطويل.
هذه الرواية تحفر في وجدان القارئ بأسئلتها أكثر مما تجيب عليه، تروي كيف يُصبح الإنسان هدفًا لا لذنبه، بل لأنه امتلك عاطفةً صادقة، وكيف تُمحى الحياة ليس بالبندقية، بل بالتجاهل، بالصمت، بالوصمة التي لا تغادر بابًا ولا ذاكرة.
بطلتها بغداد، تلك المدينة التي تتقاطع فيها الأزقة مع الأسى، ويهيم فيها الحب تحت تهديد السكين والخوف. أما أبطالها، فهم ناس بسطاء، أمهات، عشاق، أبناء، عاشوا في زمنٍ كانت فيه قلوبهم أكثر وطنًا من الخريطة.
ستقرأون عن رياض، الرجل الذي عشق فأُعدم، وعن نورية التي قاومت بحبها، ثم اقتُلعت، وعن وسام الذي خُطف من طفولته إلى مصير صنعه الكبار.
هذه الرواية تُكتب لأجلهم...
لأجل الذين لا تظهر صورهم في الوثائق، لكن وجوههم لا تغيب عن الذاكرة.
لأجل كل عاشق، كل أم، كل عائلة حملت ثمنًا لا تستحقه.
"إعدام عاشق" ليست رواية تُقرأ مرة وتُنسى… إنها جرحٌ أدبي يُفتح كلما مررنا أصابعنا على حدود الظلم، وكلما تذكرنا أن الحب لا يحمي أصحابه دائمًا… لكنه يجعلهم خالدين في الوجدان.
---
الفصل الأول
بغداد – 1974
هذه ليست بغداد التي يهدهدها دجلة بأغانيه، ولا تلك التي يتغنى بها الشعراء تحت ظلال النخيل. إنها بغداد المرتجفة، تعصف بها شائعة السفّاح "أبو طبر"، الذي جعل الليل نفسه يتقافز مذعورًا على أسطح البيوت، حاملاً في يده سكينًا وسمعة تثير الرعب في كل زاوية.
في قلب الرصافة، يتقاطع الصمت والقلق في سوق الصدرية. هناك، تتساند البيوت الطابوقية بشرفاتها الخشبية كأنها تتعانق لتواجه الخوف جماعة. أزقةٌ ضيقةٌ تعجّ في النهار بأصوات الباعة وروائح الكمّون والكركم، لكنها تخفت ما إن يغيب الضوء، وتصير بغداد كمن يوقف أنفاسه مترقبًا طعنة خفية.
في هذا المناخ المشحون، ظهر رياض. خبير في الأدلة الجنائية، لا يحمل بريق الأبطال بل هدوء الباحثين عن الحقيقة. مهمته تبدو بسيطة: رجل ثمل يحمل سكينًا ويزعج سكّان الحي. لكن في زمنٍ صار فيه الحديد مرادفًا للدم، لا توجد مهمة بسيطة.
رافقه رجال الشرطة، يتسللون داخل الأزقة كما لو كانوا يلاحقون ظلاً أكثر من رجل. النساء خلف الأبواب المواربة، الأطفال يهمسون وراء الستائر كأن الصوت نفسه صار خطيئة تثير الوحش الكامن.
ثم، في أحد المنعطفات، وجدوه: رجل يترنح، سكينه تتدلى، ونظراته نصف غائبة. اعتقلوه، وبدأت شهقة الارتياح تنتشر:
> "مو أبو طبر... الحمد لله."
وقبل أن يغادر رياض، لمح وجهًا مألوفًا يخرج من دكان صغير: مصطفى، معاون طبيب وصديقه القديم. اعتادا اللقاء في مقهى بشارع الرشيد، يتبادلان الكتب والروايات، لكن الخوف من السفّاح جعله ينقل عائلته إلى بيت والد زوجته في هذا الحي مؤقتًا.
صافحه مصطفى بحرارة فيها انكسار، وقال بوجه أنهكه القلق:
> "ماكو غيرك يا رياض، يطمن القلب... تعال باچر تغدى ويانا، ببيت الحاج علي والد مرتي. خلينا ننسى شوية سالفة أبو طبر."
هز رياض رأسه موافقًا، كأنه يتشبث بأملٍ صغير وسط هذا التوتر الخانق.
---
اليوم التالي
بيت الحاج علي كان يغلي بالضيوف، يرحب بهم بباب خشبي مزخرف بنقوش عربية دقيقة، وبغرفة ضيافة تفوح منها روائح الهيل والزعفران. سجادات ملونة تتحدث بلغة الزمن، وجدران صامتة تنصت لكل كلمة.
هناك ظهرت نورية.
فتاة ذات ملامح بغدادية رقيقة، وعينين واسعتين تحملان بريقًا من فرحٍ خجول وخوفٍ دفين. دخلت تحمل صينية الشاي، وعندما التقت نظراتها بنظرات رياض، سكن قلبه فجأة، كأن الزمن توقف ليشهد تلك اللحظة.
مدّ يده نحو الكوب، فتلامست أصابعهما، وارتعشت يدها كأن دفئًا غريبًا تسلّل إليها دون استئذان. رياض، بتلك الابتسامة القصيرة، بدا وكأنه التقط تلك الرجفة بحدس لا يخطئ.
لكن عيون المراقبين لم تغب. شقيقها الأكبر، الجالس هناك يراقب بصمت ثقيل، ارتشف من كوبه وقال بنبرة فيها سخرية مواربة:
> "والله هالشاي اليوم طعمه غير شكل... مو هيچ، أختي نورية؟"
احمر وجه نورية، وتجنبت النظر، بينما اكتفى رياض بابتسامة رصينة، يرفع بها كوبه إلى فمه ببطء... وكأنه يتذوق طعمًا جديدًا، ليس في الشراب، بل في تلك اللحظة.
وهكذا، وسط خوف بغداد من سكينٍ طائش، بدأت قصة قلبين... لا يخشَيان سوى سكينٍ من نوعٍ آخر.
-----
الفصل الثاني: موعد القلب
في صباحٍ تلا موجةً من الخوف، اجتمع رياض ومصطفى في المقهى ذاته على شارع الرشيد، حيث اعتادا أن يتبادلا الكتب ويتقاسما الحديث بين فنجانٍ وآخر. لكن اليوم، بدا رياض شاردًا، يحمل في عينيه بريقًا خافتًا كمن استيقظ على حلمٍ لا يريد له أن ينقضي.
مصطفى، وهو يدوّر فنجانه بين يديه، لاحظ التغيّر وقال مبتسمًا:
> «خير حبيبي؟ اليوم شارد مو مثل كل مرة.»
رياض تنحنح قليلاً، ثم نطق باسمٍ ارتجف بين شفتيه:
> «نورية… هي مرتبطة؟»
رفع مصطفى حاجبيه بدهشة:
> «لا والله، ليش تسأل؟»
أعاد رياض النظر إلى المقهى من حوله، كأن ضجيج المكان لا يعنيه، وقال بهدوء فيه عزم:
> «أريد منك معروف. لقاء بسيط، بعيد عن زحمة الأهل وحرجهم. إذا هي توافق، نخلي اللقاء يصير في بيتك، حتى يكون الكلام واضح وصريح… قدامك وقدام شقيقتها.»
ضحك مصطفى وربت على كتف صديقه:
> «أنت تأمر، يا رياض. نورتنا قبل لا تصير نسيب، وهسه صير نورنا مرتين.»
---
وفي مساءٍ يلفّ بغداد بنسيمه البارد، اجتمعوا في بيت مصطفى. نورية جلست إلى جانب شقيقتها، أما رياض فكان قبالتهما، يحاول أن يخفي ارتباكه بابتسامةٍ ثابتة لا تخلو من الارتجاف.
بدأ الحديث كتمهيدٍ خجول، عن أخبار بغداد وإلقاء القبض على السفاح، ثم ما لبث أن تحوّل إلى صمتٍ يتكلم بين العيون. في النظرة، في رجفة الإصغاء، كان حديث القلب يدور بلا كلمات.
وفي لحظةٍ بدت وكأنها مفصلٌ في الزمن، قال رياض، وصوته يفيض صدقًا:
> «نورية… ما جئت إلى بابكم إلا وأنا ناوي على الحلال. إذا ارتاح قلبك إليّ، أعدك أمام الله وأمام مصطفى وخيرية، أسافر للرمادي وأجيب أهلي… نخطب رسمي.»
ارتجف وجه نورية، ثم أومأت برأسها، خجلة لكنها واضحة، وفي عينيها وعدٌ لا يحتاج نُطقًا.
عندها ارتسم على وجه رياض ابتسامةٌ هادئة، كمن وجد وجهته بعد تيهٍ طويل.
---
في الرمادي، لم تسع الأم فرحتها حين سمعَت بخبر الزواج، ظنّت أنها اللحظة التي انتظرتها طويلاً لتزويجه من ابنة أختها. لكنه قال بلطفٍ حاسم:
> «يمّه، هذي أختي... قلبي اختار طريق غير.»
تنهدت، بينما الأب، الحاج ياسين، نظر إلى وجهه بنظرةٍ فيها فخر، وقال:
> «إذا قلبك شاف الطريق، فأنا أول من يمشي وياك. نروح نخطبها باليوم اللي تريده.»
---
يوم الخطبة، كان بيت الحاج علي يغص بالفرح، والزغاريد ترتفع كأنها تطرد ما تبقى من رعب المدينة. ضحك الحاج علي قائلاً:
> «اليوم بيتنا ارتفع من الأرض شبر من الفرح.»
لكن في زاوية الغرفة، جلست أخت رياض الكبرى بصمتٍ ثقيل. اقتربت من والدتها وهمست:
> «يمّه... قلبي مش مرتاح. مو عارفه ليش.»
ردّت الأم بتأنيبٍ حنون:
> «لا تشائمين… هذا يوم فرح أخوج.»
ولم يلتفت رياض إلى تلك النبرة الغريبة، فقد كان غارقًا في بهجةٍ لم يشأ أن يُكدّرها شيء.
---
تمّ عقد القران، وفي ذات أيام إلقاء القبض على أبو طبر، كأن المدينة نفسها أرادت أن تبدأ من جديد، تمامًا كما بدأ قلب رياض صفحةً جديدة.
نُقل رياض إلى كركوك، فاصطحب نورية لتبدآ حياةً لا تشبه ما قبلهما. لكن السعادة لم تكتمل طويلاً…
عاد رياض إلى الرمادي يحمل بشرى الحمل لوالديه، لكن دموع والدته استقبلته، فقد تدهورت صحة الحاج ياسين فجأة، رغم شبابه المتوهج في روح السابعة والستين.
في السادس من كانون الثاني، رحل… يوم تأسيس الجيش العراقي، وكأن التاريخ أراد أن يمنحه وداعًا يليق بثقله.
--
بعد أربعين يومًا، حصل رياض على نقلٍ إلى بغداد، ليكون بجوار والدته وإخوته. أما نورية، فعادت إلى الرمادي في بيت أهله، بينما هو يتنقّل يوميًا، وأحيانًا يبيت في بيت عمه إذا تأخّر.
بدأت نورية تتغيّر.
تحول حبها إلى غيرة متوقدة، تنهش راحته بأسئلة وعتاب. وصار قلب رياض حائرًا… بين عشقٍ لا يخبو، وضيقٍ يتسلل من كثافة الظنون.
–---
الفصل الثالث: حكم بلا محكمة
كانت نورية تحب رياض حبًا يكاد يحرق ضلوعها، حتى صارت حياته معها سلسلة من لحظاتٍ بسيطة، لكنها مشبعةٌ بالدَهشة والحنين.
كلما تأخر عن موعد عودته من بغداد، وجدها تنتظره خلف باب الدار، متلهفة كأنها فقدته دهرًا كاملاً. تضمّه بذراعيها النحيلتين، كأنها تتحقق من أنه عاد بالفعل، لا خيالًا أو طيفًا.
وكانت أيامه معها قصيرة لكنها عميقة، لا يبتعد عنها إلا حين يتوجه لعمله أو ينقطع بين رمادي القلب وبغداد الوجع. ومع ذلك، كانت تنظر إليه كل صباح وكأنه عريس جديد لم تألفه بعد.
صار حبّهما حكاية يتداولها الأقارب والأهل، يقولون بتعجب:
> «يا سبحان الله… كأنهم تزوجوا أمس، مو صار لهم سنين؟»
---
ذات مساء، جلس رياض قرب نورية، ونبرة من الجد تسللت إلى صوته:
> «نورية، لازم ننتقل لبغداد. عندي دورة فنية لسنة كاملة، ولازم أكون قريب، ووسام صار عمره أربع سنين… لازم نلحقه بالروضة.»
ابتسمت ابتسامة محمّلة بالثقل، فقد أحبت حياة الرمادي، وقربها من أهله، لكن قلبها مع رياض، ولذا لم تعارض، فقط حملت قرارها على أكتاف الحب.
استأجر رياض بيتًا في بغداد، وفتحه أمام الجميع. صار مأوىً لكل مسافر من الرمادي أو الأنبار، ولكل من قصد العاصمة لحاجة. ولم تضق نورية بأيٍّ منهم، بل كانت تعتبر كل ضيفٍ امتدادًا لحبها له، وأرضًا جديدة تزرع فيها حنانها.
---
لكن بغداد، المدينة التي تنحت الأحلام على جدرانها، بدأت تقسو فجأة.
صدر قرار جمهوري يقضي بترحيل الفيليين ممن لا يحملون شهادة الجنسية العراقية، رغم أن معظمهم ولدوا في بغداد وعاشوا فيها دون أن يعرفوا وطناً غيرها.
كانت عائلة نورية من هؤلاء.
في مطلع عام 1980، جاء القرار كالسيف. تهيأت العائلة للمغادرة، لكنهم أُبلغوا أن نورية وشقيقتها خيرية مستثنات، لأنهما متزوجتان من عراقيين.
وفي لحظة واحدة، اقتُلعت جذور نورية من تربتها.
رحل والدها، والدتها، إخوتها، أختها الصغرى، وجدتها التي تجاوزت التسعين.
وكان وداعًا يشبه النكبة، لا كلمات فيه تكفي، ولا دموع تفي بالغصة.
وقفت نورية أمام الباب بعد رحيلهم، تحدّق في الفراغ، وكأنها تنتظر أن يعودوا من وراء الزمن.
---
ولم تكد جراح نورية تلتئم، حتى سقطت على رياض طعنة لا تشبهها طعنة.
استدعاه مسؤول حزبي في قيادة الشعبة ببغداد، وواجهه بتحقيق يحمل سيف الاتهام لا منطق العقل.
> «شلون تكون رفيق بالحزب، ومرتك خالها أمين عام الحزب الشيوعي؟ بعدين هي تبعية إيرانية. لازم تطلقها فورًا، وتروح مع أهلها.»
ارتطم رياض بكلماتهم وكأنها أحجار تهدم آخر ما تبقى من ذاته.
أن يطلبوا منه أن يطلّق روحه، الحبيبة التي احتضنته كلما عاد، كأنها تؤكد أنه حيّ.
أمضى ليالٍ لا يعرف فيها النوم. يتقلّب بجانبها وهي لا تدري ما به، يخرج باحثًا عن حل، عن واسطة، عن فتوى صغيرة تعفيه من هذه المذبحة النفسية.
لكن بغداد، التي كانت تضجّ بالحياة، صمتت أمام وجعه.
---
في إحدى الليالي، عاد منهكًا، جلس في ركن الغرفة، ينظر إلى نورية وهي تغني لوسام تهويدة حزينة، لا تدري أن النار مشتعلة في صدر زوجها.
نظر إليها وقال في داخله:
> «هل أنا من سيهدم بيتنا بيدي؟ هل أرميها وابني إلى مصيرٍ لا أعرفه؟»
لكن في زمنٍ لا يعترف بالحب، ولا بالدمع، ولا حتى بالوفاء…
كان القرار يُصاغ في غرف مغلقة، ويُنفّذ على أرواحٍ لم تُمنح فرصة الدفاع.
وهكذا، بدأت خيوط حكمٍ بلا محكمة تلتفّ حول رياض.
لا قاضٍ ولا منصة… فقط ضميره، وأوراقٌ لا تشبه العدالة.
–---
– الفصل الرابع: حين بكى العاشق
عاد رياض إلى بيته في بغداد والليل يلفّ المدينة كما يلف الحزن قلبه.
وجهه شاحب كأنما خرج من جنازة روحه، خطواته ثقيلة تحمل همًّا لا يُقال. دخل على نورية، فبانت عليه انكسارات لا تخفى، وجلس قبالتها وقال بصوت منكسر:
> «نورية… لازم نهيّأ حالنا للسفر للرمادي. باچر آخذ إجازة اضطرارية ونمشي، يمكن هناك نلقى حل.»
لم تفهم نورية في البداية معنى الكلام، نظرت إليه بذهول مرتبك، وما إن استوعبت الخطر، حتى سقطت على الأرض بانهيارٍ صامت.
ركض إليها رياض، وضمها بين ذراعيه كأنما يحتمي بها من قدرٍ غادر.
انهالت دموعه، وقبّل وجهها وجبينها وكفّيها، ينوح بصوت مختنق:
> «يا ربي… شسوينا حتى نستاهل هيچ عذاب؟»
تناول كأس ماء، رشّه على وجهها وكأنه يريد أن يوقظها من كابوس، ثم همس وهو يحتضنها من جديد:
> «والله ما بيدي شي… سامحيني يا عمري.»
---
تلك الليلة لم يعرفا النوم. جلست نورية متكئة على كتفه، تمسك بيده كأنها تخشى أن تفرّ منها الحياة.
كانت دموعها صامتة، لا تصرخ ولا تتذمّر، فقط تتسلّل على وجنتيها كأنها تخجل من وجعها.
وفي أول ضوء للفجر، خرج رياض إلى صديقه في مدينة الطب، وقال منهكًا:
> «أريد معروف العمر كله… خلي أنام يوم بالمستشفى وتكتبولي إجازة مرضية اضطرارية. عندي مصيبة لازم أطلع منها.»
رتّب له صديقه التقرير، ومنحه خمسة عشر يومًا من "الرقود في البيت"، ثم عاد رياض إلى نورية، وحملا وجعهما إلى الرمادي.
---
وهناك، اجتمع بيت الحاج ياسين على المصيبة وكأنهم يودّعون حلمًا لا يريدون له أن يموت.
يومان دون طعام، فقط شايٌ كثيف، وسجائر لا تنتهي.
رياض يتقلّب على جمر الصمت، ونورية تجلس قربه، تلتصق بكفه بصمت، ودموعها تسيل بلا صوت، كأوراقٍ تتساقط من شجرة في خريفٍ لا يُرجى نهايته.
---
في اليوم الثالث، دخل العقيد محمود وحيدًا، وجهه شاحب، وعيناه غائرتان.
جلس وسط العائلة وقال بصوت خافت:
> «يا ابني… أحالوني على التقاعد، ومنعوني من السفر. كل شي انكشف. أنا خايف عليك… خايف على اسمنا.»
ثم التفت إلى نورية، وحدّق فيها بنظرة أبوية حزينة:
> «بنتي، زوجك بخطر. لازم تنفصلون حالًا… انتي ما تبقين بإيران، روحي سوريا، وإذا الله كاتب، يجيكم رياض وتلتقون من جديد.»
---
وهكذا، جرى كل شيء بصمت ثقيل.
رتّبوا الأوراق سرًّا، وخلال أسابيع، رحلت نورية مع أهلها إلى إيران، ثم إلى دمشق.
وهناك، في أحد بيوت العاصمة، اجتمع العاشقان للمرة الأخيرة.
جلسا متقابلين، نورية تمسك بكف وسام، الطفل الذي بدأ يشعر أن في المشهد شيئًا لا يُقال.
رياض يشدّ على يدها، كأنما يطلب من الزمن أن يتوقّف.
لم يتحدثا كثيرًا. فقط تبادلا نظراتٍ بين بكاء وابتسامة، وحين حانت لحظة التوقيع، نظر رياض إليها طويلًا، وقال بصوتٍ محمّل بالحسرة:
> «سامحيني… مو بيدي. والله لو الدنيا كلها ضدي ما يهمني، بس خوفي عليچ وعلى وسام.»
هزّت رأسها بصمت، ومسحت دموعه، ثم قبّلت يده كأنها تودّع الأمان الأخير الذي عرفته.
وقّع رياض على الأوراق.
لم يكن طلاقًا، بل إعدامًا.
إعدام لعاشقٍ بلا سيف، وبلا منصة، في بلدٍ لا يرى في الحب شفاعة، ولا في الإنسان أكثر من رقم ملف.
خرج رياض من البيت في دمشق وهو يجرّ قلبه المكسور، تائه الخطى، فيما بقيت نورية تراقبه من شرفة صغيرة، تحبس شهقتها، كي لا يسمعها ابنها.
لم يكن الفراق بينهما انفصال جسدٍ عن جسد، بل كان نهاية وطنٍ صغير اسمه: نحن.
–---
الفصل الخامس: حين اقتُلع القلب
---
خرج رياض من دائرة الأمن العام في بغداد يجرّ خيبته كما لو كان يجرّ حبل مشنقته، يحمل بين يديه أوراق الطلاق التي فرضها عليه قدر قاسٍ لا يرحم. كان وجهه شاحبًا، ونظراته مطفأة، حتى كأنه خرج من قبره.
كان في انتظاره أخوه عامر وابن عمته عدنان، يقفان تحت مظلة دكان قريب يلوذان بظلها من حر الشمس، لكن ما أثقل هذا الحر حين يجتمع مع حزنٍ ثقيل. ما إن أبصرهما حتى حاطاه من اليمين واليسار يستطلِعان خبره.
بادره ابن عمته بحنق:
> «ألم أقل لك لو أخذتها وهربت بها إلى سوريا لكان أفضل؟»
وعاجله عامر بتأييدٍ مُرّ.
أطرق رياض رأسه وأجاب بصوت مبحوح:
> «لو كنت هربت بيها… ما أضمن يسلم عمي ولا أنت. تعرفون شلون قبضة الأمن، كانو يجبروني أسلم نفسي حتى لو بالعافية، وإلا دمّروا العائلة كلها.»
ثم تنهد بحرقة وأردف:
> «خلونا نروح، أمي جالسة على نار من عرفت أني داخل على الأمن.»
---
وفي ذلك الوقت، كانت نورية تكابد وحدها وجعًا آخر في دهاليز الترحيل. أُدخلت قاعة تجمع فيها عوائل عديدة، ينتظرون دورهم في التسفير إلى إيران. جلست بين نسوة وأطفال ووجوه مذعورة، تمسك بوسام وقد صار ثِقله عليها ثقيلًا من شدة الخوف، لا من وزنه.
كانت تبكي بصمت، قلبها يتلوّى: كيف انتهى بها الحال هكذا؟ كيف تخسر عائلتها بلا ذنب، وتفقد حبيبها الذي صار فجأة على الضفة الأخرى من حياتها؟
كانت تعزي نفسها: لا بأس، سنلتقي في دمشق، في السيدة زينب، كما وعدها رياض في السر.
لكن شكوكًا كانت تنهشها: ماذا لو لم يسمحوا لها بالسفر أصلًا من إيران؟ ماذا لو ضاعت في غربة لا يربطها فيها أحد؟
ولم تكن تقلق على نفسها فقط، بل على مصوغاتها الذهبية والنقود التي أخفاها رياض في حقيبتها، إذ رغم إعلان السلطات السماح لهم بأخذ مقتنياتهم، إلا أن الطمع لا يرحم أحدًا.
---
وفي بغداد، جلس رياض في مكتبه في مديرية الأدلة الجنائية يحاول عبثًا أن ينهي أوراقه وواجباته بقلب مكسور.
وإذا بأحد رجال الشرطة يطلبه للحضور إلى مكتب المدير.
دخل فوجد المدير يحدّق فيه بنظرة جادة، وقال له:
> «عليك التوجه فورًا إلى مخفر مندلي قرب المنذرية على الحدود مع إيران. الأمن منعوا وسام من الخروج مع أمه، لازم تروح تستلمه.»
سقطت الكلمات على رأسه كالصاعقة. لم يتوقع أن يجري التسفير بهذه السرعة، فقبل يومين فقط كانت نورية راجعت دائرة التسفير.
---
خرج مسرعًا إلى بيته، أخبر عامر وعدنان، ثم شدّوا الرحال إلى مندلي.
وصلوا في الثالثة عصرًا، ليجد المشهد الذي سيظل ينزف في ذاكرته للأبد:
نورية ترقد في غرفة خاصة في المنفذ الحدودي، مغطاة بملاءة بيضاء، تحت مفعول إبرة مهدئة بعد انهيار عصبي.
أما وسام، الصغير الذي لم يكمل الخامسة، فيجلس في غرفة أخرى بعيدًا، يطعمه أحد موظفي المنفذ العجائز ويحاول تسليته.
ما إن وقعت عين رياض على ابنه حتى ركع على ركبتيه يحتضنه ويبكي كالأطفال.
---
أخذه ضابط المخفر إلى مكتبه، وقال له بصوت يحاول أن يخفي رققته:
> «يا أستاذ رياض، هذا قرار دولة. إيران بدأت ترحّل أكراد العراق المولودين عندهم، وحنا نرد بالمثل نرحّل الإيرانيين بالعراق. ابنك عراقي، ما يصير يطلع، لازم تاخذه وياك.»
قالها الضابط وهو يهز رأسه بأسى.
تمتم رياض:
> «سيدي… أمه بتموت لو أخذته منها. كل اللي معزّيها إن ابنها وياها. ما أقدر.»
هز الضابط رأسه في حيرة، ثم شدد نبرته وقال:
> «خذ ابنك واذهب قبل ما تفيق زوجتك. الطبيب أعطاها إبرة مهدئة، ساعة وتصحى… وقتها ما ينفع شي.»
---
كان رياض واقفًا يحتضن وسام والدموع تغرق عينيه، حين دخل أحد موظفي المنفذ ليبلغ الضابط بأن والدة رياض وصلت مع عامر وعدنان وتطلب رؤية ابنها وحفيدها.
دخلت الأم العجوز، ما إن أبصرها رياض حتى انقض عليها محتضنًا وسام، منهارًا كأنه ليس ذاك الرجل الصلب الذي تعرفه بغداد. حتى الضابط بكى سرًا وأدار وجهه كي لا يفضح ضعفه.
---
لكن سرعان ما صحت نورية من غفوتها. صرخت بأعلى صوتها حين لم تجد وسام قربها:
> «وسااام!»
ركض رياض إليها يحمله، وضعه في حضنها وهي ترتعش. رفعت عينيها المبللتين إلى العجوز وقالت بحرقة
> «عمة… أخذوا مني رياض، وهسة يريدون ياخذون وسام. ليش عمة؟ أنا شسويت؟»
أجهشت أم رياض بالبكاء:
> «شبيدي يا بنتي…»
فصرخت نورية كأنها تستنجد بروح الكون:
> «عمة… ابنچ إلي… ابني إلي! قسمة حق عمة، أنا راضية أخو مني رياض، عوفولي وسام فدوة اروحلچ!»
---
هنا التفت رياض إلى الضابط وصوته مبحوح:
> «سيدي… يصير أتنازل عن ابني للأم؟ لا هو يگدر من دونها ولا هيه تصبر عليه.»
دخل الضابط إلى مكتبه، رفع سماعة الهاتف، اتصل بمرجعه طويلًا، ثم خرج وقال:
> «إذا تكتب تعهد رسمي بالتنازل عن حضانة ابنك، نخليه يسافر وياها.»
أجاب رياض وهو يلهث كمن يتشبث بأنفاسه الأخيرة:
> «أوقع… أوقع ألف مرة.»
---
وهكذا، وُقّعت الأوراق.
وأخذت نورية ابنها وذهبت مع المسافرين إلى إيران، بينما بقي رياض وأمه وأخوه وابن عمته واقفين على رصيف المنفذ يبكون.
عاد رياض إلى بغداد، لكن قلبه ظل هناك، في مندلي، في يد امرأة تشد على كف ابنها كأنه خلاصها الأخير.
ولم يكن هذا فراق امرأة لرجل… بل اقتلاع قلب من صدر عاشق.
––
الفصل السادس: حين ذوى الغصن
عاد رياض من الحدود بصمتٍ يشبه الخسارة التي لا تُروى.
برفقة والدته وشقيقه عامر، دخل بيتهم في الرمادي كظلٍ بلا روح.
جلس بينهم كغصنٍ ذابل، لا يتكلم، لا يشارك، وعيناه غائرتان كأنهما فقدتا القدرة على النظر، بينما روحه، تلك التي كانت يومًا مفعمة بالحيوية، تحوّلت إلى رماد ينهشه الأسى.
يمضي نهاره ساكنًا، لا يأبه بما حوله، وكأن الكلام فقد جدواه بعد تلك الطعنة التي مزّقت حياته.
وعندما عاد إلى بغداد، مضى أسبوعٌ تلو الآخر وهو غارقٌ في الصمت، حتى تغيب أسبوعين عن اجتماعات الحزب، كأنه يتخلى عن كل ما كان يومًا جزءًا من هويته.
---
استدعوه أخيرًا، وهناك وقف أمام مسؤول حزبي متجهّم، لا يعرف الرحمة، ولا يعرف أن أمامه رجلًا مفطورًا:
> «وينك؟ ليش تغيّبت؟ وتنازلت عن ابنك؟ هذا يخالف مبادئ الحزب والغيرة الوطنية!»
لم ينبس رياض ببنت شفة.
كانت الكلمات تصطدم بجدار لا يسمع، وخرج من هناك يجرّ قدميه بلا وزن.
بدلًا من أن يعود إلى البيت، حمل معه عدنان إلى نادٍ مهجور، لعلّ كأسًا ينجح في غسل ما علق داخل صدره.
جلس يرفع الكأس تلو الآخر، حتى ضاعت ملامحه، وبات يهذي:
> «أخذوا ابني… أخذوا زوجتي… سلبوني حياتي كلها…»
هكذا بدأ يسقط علنًا، بصوتٍ متكسرٍ يفضح انهياره، حتى اضطر عدنان إلى إمساكه ورجائه أن يعود قبل أن ينكشف أمره تمامًا.
---
في صباح اليوم التالي، أقدم رياض على فعلٍ مفاجئ:
باع كل مقتنيات بيته المستأجر في بغداد، فلم تعد تلك الزوايا تحتمل روحه، ولا الصور ولا الضحكات ولا رائحة المطبخ.
أغلق صفحة الماضي، وسكن فندقًا في شارع الرشيد، لا يبحث فيه عن راحة، بل عن نسيان.
صار يقضي لياليه في كأسٍ تجرّه إلى نومٍ متقطّع، ثم يعود نهاية الأسبوع إلى الرمادي، كأن حياته اختُزلت إلى حقيبةٍ وسريرٍ ومساءٍ وحيد.
---
ومضت شهور الوجع، حتى جاء يومٌ فيه استدعاه العقيد مدير الأدلة الجنائية.
دخل المكتب، فوجد العقيد ممسكًا بخطّ خارجي خاص بالدائرة، أشار إليه:
> «اتصال دولي من إيران... إلك.»
تناول رياض السماعة، والخوف يطرق قلبه، وإذا به يسمع صوتها… صوت نورية.
صوتٌ منكسر لكنه حي، رخيمٌ لكنه بعيد.
ارتج قلبه، وعاد إليه نبضٌ غاب… لكن الخوف كان حاضرًا أيضًا، فالخط مراقَب، والكلمات تحسب كنقاط ضعف.
> «شلونچ؟ وشلون وسام؟»
طمأنته، قالت إنهما بخير، وإنها تشتاق إليه حتى يكاد قلبها يذبل.
لكنه أنهى المكالمة سريعًا، نظر إلى العقيد يشكره، وغادر كمن يحمل فوق رأسه شبحًا يُطارده.
---
ذهب في المساء إلى بيت عمّه، أخبره بالاتصال، فقال له العم وهو يربّت على كتفه:
> «اهدأ… لا تتسرّع. كل شيء بيد الله.»
لكن رياض، الذي لا يملك من نفسه إلا ذكرياته، عاد إلى الفندق، فليلته لا تسع إلا كأسًا وسقوطًا جديدًا.
---
مرّ الخميس والجمعة ولم يأتِ إلى الرمادي.
قلقت والدته، وكلفت عدنان بالسفر إلى بغداد ليطمئن.
وعند مساء الأحد، عاد عدنان، وجهه شاحب وعيناه ساكنتان.
دخل على العائلة، فقال كمن يَسِرّ خبرًا يُهدم:
> «رياض… معتقل. اعتقلوه يوم الثلاثاء الماضي، يوم استهداف وزير الثقافة بالجامعة المستنصرية. صار له خمسة أيام بالسجن.»
شهقت الأم كما لو طُعنت في صدرها، وجلس عمّه وقد أطبق الصمت عليه، سقط رأسه بين كفّيه كأن الحكاية بلغت نهايتها.
وهكذا… اكتملت دائرة إعدام العاشق.
اقتلعوا قلبه ذات فجر في المنذرية، واليوم يُحاصر جسده خلف قضبان، ليذبل غصنه الذي كاد يزهر… كاد فقط.
–----
الفصل السابع: حين أُعدموا اسمه
-----
استنفرت العائلة كمن يبحث في ليلٍ بلا نجوم.
انطلقت الأم، عامر، أبناء العمومة… كلٌّ يسعى في درب، يطرقون الأبواب، يسألون الوجوه، يتسلّلون إلى أقبية الظنون، عسى أن يجدوا أثرًا لرياض.
لكنهم كلما عادوا، عادوا بصفر اليدين.
حتى الفندق الذي كان مأواه الأخير سلّمهم حقيبة خفيفة وبعض مقتنيات، وقال موظفه بوجه مشفق:
> «أخذوه رجال أمن بملابس مدنية، مسلحين. دخلوا عليه الساعة وحدة بالليل وهو ثمِل، ما كان لابس حتى قميص… طلعوه بفانيلة وسروال، حافي القدمين.»
كان المشهد اختفاءً لا يشبه الاعتقال، بل خطفًا جافًا لشبحٍ نام في سلامه.
ومن تلك الليلة، اختفى رياض من الدنيا، كأن الأرض فتحت فمها وابتلعته بلا أثر.
---
الأيام تتوالى كأحمال، والأم العجوز تطوف بين مديريات الأمن، من بغداد إلى الرمادي.
طرقت باب الأمن العام، توسّلت برؤية ابنها أو بمعرفة مصيره، فكان الرد جليديًّا:
> «ما عندنا معتقل بهالاسم. لا تراجعينا بعد.»
لم تستسلم.
ذهبت إلى وزارة الداخلية تطلب مقابلة الوزير، فقيل لها:
> «ما موجود عدنا.»
ثم، لما ضاق بها الأمل، توجّهت إلى قمة السلطة، تطلب لقاء الرئيس صدام حسين.
وبعد ثلاث سنوات من الغياب، وقفت هناك… امرأة منهكة الجسد، لكنها متماسكة بالروح، تروي قصتها أمام رئيس الوطن، الذي وعد ببرودٍ رسمي:
> «راح نراجع الموضوع ونعرف الجهة اللي أخذته ونرد عليچ.»
لكن الرد لم يأت كما تمنّت.
---
بعد أيام، وفي ندوة جماهيرية بين المعلمين والموظفين، وقف مسؤول حزبي، كمن يرشق الكلمات كالرصاص:
> «أكو واحد من منطقتكم، عميل لإيران، متهم بتفجير الجامعة المستنصرية… وأهله بيناتكم. لازم ننتبه من العملاء اللي عايشين ويانا وإحنا غافلين.»
كأنّ قنبلةً ألقيت وسط السكون، ارتجف المكان، وصارت النظرات تتجنب بيت رياض كما يتجنبون الوباء.
---
الجدران لم تعد تقي من الاتهام.
الجارة ترفع صوتها، البقال يدير وجهه، والأقارب ينسحبون خشية أن تطالهم شبهة "الخائن".
عامر، الذي كان ينتظر زفافه، فُسخت خطوبته بصمتٍ مؤلم.
قالوا إن السبب ابن عمها، لكن الحقيقة كانت أفظع: لا أحد يريد مصاهرة من اتُّهم ظلماً بالعار.
لم يحتمل عامر كل هذا الحصار.
ارتدى بدلته العسكرية، والتحق بجبهة القتال، يبحث عن معنى في حرب لا تسأل عن وجع قلب.
وهناك، أصيب إصابةً جعلته معاقًا، ليكتمل نصاب الألم في جسده.
---
لكن الدولة لم تكتفِ بغياب رياض، بل طاردت اسمه في بيوت أهله.
كل بضعة أشهر، تدقّ الشرطة أبوابهم:
> «إذا اتصل بيكم رياض بلغونا فورًا. ترى نعرف إنه هارب بره.»
أقنعوهم زورًا بأن "عملية اعتقاله" لم تحدث، وأنه هرب إلى إيران بمفرده.
وهكذا، عاش أهله بعارٍ مصنوع، لا يعرفون إن كان ابنهم حيًا أو ميتًا، بينما الأجهزة تحاسبهم على ظلّ رجلٍ غاب في النسيان.
حتى الصغار استُدعوا، سُئلوا عن أخيهم كأنهم يحملون سره في حقائب طفولتهم.
---
وهكذا، أُعدم رياض مرةً أخرى.
ليس بالجسد هذه المرة، بل بالاسم.
أُعدمت سمعته، وشُوّه شرفه، ومُزّقت كرامة أهله معه.
وبقيت العائلة تحمل وصمةً لم يرتكبها أحد…
وصمة وطنٍ مزّق أبناءه بين الخوف، والتجريم، والحرب، وجدران صمّاء لا تعرف الرحمة.
–---
الفصل الأخير: الثمن
---
ثلاثة وعشرون عامًا مضت منذ اختفى رياض من بين أيديهم.
ثلاثة وعشرون عامًا صارت خلالها أمه سجينة بيتها ودموعها، حتى ذوت عيناها وطفئ نورهما، فغدت عمياء لا ترى سوى صورة ابنها في خيالها الموجوع.
مرت السنون ثقيلة عليها، لا تخرج من عتبة دارها إلا مُضطرة لزيارة طبيب.
هجرت أقاربها، تجنبًا لنظراتهم التي كانت تخشاها أكثر من أي شيء في الدنيا: عتبٌ؟ شفقة؟ تهمة صامتة؟ لم تعد تطيق أن تراها في وجوههم.
اكتفت بأولادها وبناتها الذين يملؤون بيتها ليعوضوا فقد رياض، لكن الفقد كان ثقبًا أسود في صدرها، يبتلع كل محاولات المواساة.
---
ثم جاء يوم سقوط النظام في 2003.
كأن الأرض انقلبت على رأسها، فخرج من خرج من سجونه، وعاد من عاد من منافي الأرض، وهرول الناس يبحثون عن أبنائهم وأحبّتهم، بين ركام الملفات والدوائر المفتوحة.
عادت شرارة الأمل تحرق قلوبهم من جديد.
هرعوا يسألون عن رياض في كل مكان، حتى وصلوا إلى جمعية السجناء السياسيين في بغداد.
وهناك، وُضع حد لكل ذلك الانتظار المرير.
قال لهم الموظف، يقلب أوراقًا قديمة وصفراء:
> «إي… موجود. رياض … هذا اسمه ضمن قائمة المعدومين سنة 1987. التهمة: انتماء لحزب الدعوة.»
وقع الخبر عليهم كمعول هدم آخر ما بقي من جدران صبرهم.
وحين تحرّوا عن حقيقة ما جرى، حدثهم بعض السجناء القدامى ممن كانوا معه:
> «ما مات بالاعدام… مات تحت التعذيب. ومن يموت بالتعذيب يسجلونه ضمن المعدومين السياسيين حتى يغلقوا ملفه.»
---
وهكذا اكتملت مأساة رياض.
لم يكتفوا بقتله جسدًا، بل أعدموا عاطفته يوم انتزعوه من نورية ووسام، وأعدموا إنسانيته يوم لطّخوا اسمه بالخيانة، وأعدموه اجتماعيًا حين جعلوا عائلته تحمل وزرًا لم يقترفوه.
ثم أخيرًا، أعدموه رسميًا، بورقة رسمية عليها ختم الدولة، تقول إن عاشقًا كان هنا… وقد صار ذكرى مشوهة.
هكذا دفع رياض الثمن — الثمن الفادح الذي يتقاضاه الطغيان من أرواح العشاق وأحلام الناس البسطاء.
---
رواية إعدام عاشق
في زمنٍ كانت فيه المواويل تُغنّى خفية، والقلوب تُعاقب على نبضها، ولد عاشقٌ اسمه رياض.
لم يكن بطلًا خارقًا، بل رجلًا أحب امرأة وطفلًا ووطنًا، فانكشفت عليه أنياب السياسة، وسُلخ عن اسمه وبيته وحلمه، حتى صار قصته تُروى في صمت الخوف.
إعدام عاشق ليست فقط مأساة رجل… إنها صرخة مكتومة، ومرآة لوطن مزّقته القرارات، وفتىً لم يرتكب شيئًا سوى أنه أحبّ.
في هذه الرواية، يكتب عماد آل شهزي بريشة موجوعة، قصة رجلٍ أُعدم أكثر من مرة:
بالسجن، بالتشويه، بالفقد، وأخيرًا بورقة رسمية ختمت عليه الصمت الأبدي.
ستقرأ عن بغداد المرتجفة، وعن نورية التي حاربت بأصابعها المرتعشة، وعن وسام الذي صار طفلًا بين الحدود والملفات.
هذه ليست رواية تُقرَأ… إنها رواية تُبكى.
عماد آل شهزي الطائي
🖤